سؤال وَرَدَ على الشَّيخ ـ رَحمَه اللّه.
قال السائل:
الحمد للّه رب العالمين.
يا متقناً علم الحديث ومن روى ** أصبحت في الإسلام طَوْدًا راسخًا
هذي مسائــل أشكلت فتصدقوا ** فالمستعان على الأمـــور بأهلهـا
ولكــم كأجــر العاملـين بسـنته ** سـنن النبـي المصطفـــي المختــار
يهدي بــه وعــددت فــي الأحبـار** ببيانها يـــا ناقلي الأخبــار !
إن أشكلت قـــد جاء في الآثار ** حين سئلتمو يا أولي الأبصار
الأولي: ما حَدُّ الحديث النبوي؟ أهو ما قاله في عمره، أو بعد البعثة أو تشريعًا؟
الثانية: ما حد الحديث الواحد؟ وهل هو كالسورة، أو كالآية، أو كالجملة؟
الثالثة: إذا صح الحديث، هل يلزم أن يكون صدقا، أم لا؟
الرابعة: تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف تسمية صحيحة، أو متداخلة؟
الخامسة: ما الحديث المكرر المعاد بغير لفظه ومعناه من غير زيادة ولا نقص؟ وهل هو كالقصص المكررة في القرآن العظيم؟
السادسة: كم في صحيح البخاري حديث بالمكرر؟ وكم دونه؟ وكم في مسلم حديث به، ودونه؟ وعلى كم حديث اتفقا؟ وبكم انفرد كل واحد منهما عن الآخر؟
فأجاب شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية ـ رحمه اللّه:
الحمد للّه رب العالمين، الحديث النبوي هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حُدِّث به عنه بعد النبوة: من قوله وفعله وإقراره، فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة. فما قاله إن كان خبرًا وجب تصديقه به، وإن كان تشريعًا إيجابًا أو تحريمًا أو إباحة وجب اتباعه فيه، فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن اللّه - عز وجل، فلا يكون خبرهم إلا حقًا، وهذا معني النبوة، وهو يتضمن أن اللّه ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب، والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه.
ولهذا كان كل رسول نبيًا، وليس كل نبي رسولا، وإن كان قد يوصف بالإرسال المقيد في مثل قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عليمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] ، وقد اتفق المسلمون على أنه لا يستقر فيما بلغه باطل، سواء قيل: إنه لم يجر على لسانه من هذا الإلقاء ما ينسخه اللّه، أو قيل: إنه جري ما ينسخه اللّه، فعلى التقديرين قد نسخ اللّه ما ألقاه الشيطان وأحكم اللّه آياته واللّه عليم حكيم؛ ولهذا كان كل ما يقوله فهو حق.
وقد روي أن عبد اللّه بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الناس: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع،فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما خرج من بينهما إلا حق) يعني: شفتيه الكريمتين.
وقد ثبت عن أبي هريرة أنه قال: لم يكن أحد من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحفظ مني إلا عبد اللّه بن عمرو، فإنه كان يكتب بيده، ويَعِي بقلبه، وكنت أعي بقلبي ولا أكتب بيدي، وكان عند آل عبد اللّه بن عمرو بن العاص نسخة كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه شعيب، عن جده، وقالوا: هي نسخة ـ وشعيب هو: شعيب بن محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ـ وقالوا عن جده الأدني محمد: فهو مرسل؛ فإنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وإن عني جده الأعلى فهو منقطع؛ فإن شعيبًا لم يدركه.
وأما أئمة الإسلام وجمهور العلماء، فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده إذا صح النقل إليه، مثل: مالك بن أنس وسفيان بن عيينة ونحوهما، ومثل: الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم، قالوا: الجد هو عبد اللّه؛ فإنه يجيء مسمي ومحمد أدركه، قالوا: وإذا كانت نسخة مكتوبة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا أَوْكد لها وأدل على صحتها؛ ولهذا كان في نسخة عمرو بن شعيبمن الأحاديث الفقهية التي فيها مقدرات ما احتاج إليه عامة علماء الإسلام.
والمقصود أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أطلق دخل فيه ذكر ما قاله بعد النبوة، وذكر ما فعله؛ فإن أفعاله التي أقر عليها حجة، لا سيما إذا أمرنا أن نتبعها كقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم)، وكذلك ما أحله اللّه له فهو حلال للأمة مالم يقم دليل التخصيص؛ ولهذا قال: {فَلَمَّا قَضَي زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ على الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] ، ولما أحل له الموهوبة قال: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] .
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن الفعل يذكر للسائل أنه يفعله؛ ليبين للسائل أنه مباح، وكان إذا قيل له: قد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: (إني أخشاكم للّه وأعلمكم بحدوده).
ومما يدخل في مسمي حديثه: ما كان يُقِرُّهم عليه، مثل: إقراره على المضاربة التي كانوا يعتادونها، وإقراره لعائشة على اللعب بالبنات، وإقراره في الأعياد على مثل غناء الجاريتين، ومثل لعب الحبشة بالحِرَاب في المسجد ونحو ذلك، وإقراره لهم على أكل الضب على مائدته، وإنكان قد صح عنه أنه ليس بحرام. إلى أمثال ذلك، فهذا كله يدخل في مسمي الحديث، وهو المقصود بعلم الحديث؛ فإنه إنما يطلب ما يستدل به على الدين، وذلك إنما يكون بقوله أو فعله أو إقراره.
وقد يدخل فيها بعض أخباره قبل النبوة وبعض سيرته قبل النبوة، مثل: تَحنُّثِه بغار حراء، ومثل: حسن سيرته؛ لأن الحال يستفاد منه ما كان عليه قبل النبوة: من كرائم الأخلاق ومحاسن الأفعال، كقول خديجة له: كلا واللّه لا يخزيك اللّه أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتقْرِي الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، ومثل: المعرفة، فإنه كان أميًا لا يكتب ولا يقرأ، وأنه لم يجمع متعلم مثله وإن كان معروفا بالصدق والأمانة، وأمثال ذلك مما يستدل به على أحواله التي تنفع في المعرفة بنبوته وصدقه، فهذه الأمور ينتفع بها في دلائل النبوة كثيرًا. ولهذا يذكر مثل ذلك من كتب سيرته، كما يذكر فيها نسبه وأقاربه وغير ذلك بما يعلم أحواله. وهذا أيضًا قد يدخل في مسمي الحديث.
والكتب التي فيها أخباره منها كتب التفسير، ومنها كتب السيرة والمغازي، ومنها كتب الحديث. وكتب الحديث هي ما كان بعد النبوة أخص، وإن كان فيها أمور جرت قبل النبوة، فإن تلك لا تذكر لتؤخذ وتشرع فعله قبل النبوة، بل قد أجمع المسلمون على أن الذي فرض على عباده الإيمان به والعمل هو ما جاء به بعد النبوة.
ولهذا كان عندهم من ترك الجمعة والجماعة، وتخلي في الغِيرَان والجبال،حيث لا جمعة ولا جماعة، وزعم أنه يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم لكونه كان متحنثًا في غار حراء قبل النبوة في ترك ما شرع له من العبادات الشرعية التي أمر اللّه بها رسوله، واقتدي بما كان يفعل قبل النبوة كان مخطئًا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن أكرمه اللّه بالنبوة ـ لم يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث في غار حراء أو نحو ذلك، وقد أقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة، وأتاها بعد الهجرة في عمرة القضية، وفي غزوة الفتح، وفي عمرة الجعرانة، ولم يقصد غار حراء، وكذلك أصحابه من بعده لم يكن أحد منهم يأتي غار حراء، ولا يتخلون عن الجمعة والجماعة في الأماكن المنقطعة، ولا عمل أحد منهم خلوة أربعينية كما يفعله بعض المتأخرين، بل كانوا يعبدون اللّه بالعبادات الشرعية التي شرعها لهم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي فرض اللّه عليهم الإيمان به واتباعه؛ مثل: الصلوات الخمس وغيرها من الصلوات، ومثل: الصيام والاعتكاف في المساجد، ومثل: أنواع الأذكار والأدعية والقراءة، ومثل: الجهاد.
وقول السائل: ماقاله في عمره أو بعد النبوة أو تشريعًا، فكل ما قاله بعد النبوة وأقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع، لكن التشريعيتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب؛ فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعا لاستحبابه؛ فإن الناس قد تنازعوا في التداوي هل هو مباح أو مستحب أو واجب؟
والتحقيق أن منه ما هو محرم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ماهو مباح؛ ومنه ماهو مستحب، وقد يكون منه ما هو واجب، وهو ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره، كما يجب أكل الميتة عند الضرورة، فإنه واجب عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار، فقد يحصل أحيانًا للإنسان إذا اسْتَحَرَّ المرض ما إن لم يتعالج معه مات، والعلاج المعتاد تحصل معه الحياة كالتغذية للضعيف، وكاستخراج الدم أحيانًا.
والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منها شرع، وهو صلى الله عليه وسلم لما رآهم يلقِّحُون النخل قال لهم: (ما أري هذا ـ يعني شيئا ـ) ثم قال لهم: (إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن اللّه فلن أكذب على اللّه)،وقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم، فما كان من أمر دينكم فإلي) وهو لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط من غلط في ظنه أن{الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} و{الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] ، هو الحبل الأبيض والأسود.