وأما الحديث الواحد، فيراد به ما رواه الصاحب من الكلام المتصل بعضه ببعض ولو كان جملا كثيرة، مثل: حديث توبة كعب بن مالك، وحديث بدء الوحي، وحديث الإفك، ونحو ذلك من الأحاديث الطوال؛ فإن الواحد منها يسمي حديثًا، وما رواه الصاحب أيضًا من جملة واحدة أو جملتين أو أكثر من ذلك، متصلا بعضه ببعض؛ فإنه يسمي حديثًا، كقوله: (لا صلاة إلا بأم القرآن)(الجار أحق بسَقَبِه)، (لا يقبل اللّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وقوله: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوي) إلى آخره، فإنه يمسي حديثًا.
وكذلك قوله: (لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد اللّه إخوانا)، وقوله في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتَتُه)، وقد أكمل من أجناس مختلفة، لكن في الأمر العام تكون مشتركة في معني عام، كقوله: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يَبِع على بيع أخيه، ولا يَسْتَام على سَوْمِ أخيه، ولاتسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ مافي صَحْفتها ولتنكح، فإن لها ما قدر لها) فإن هذا يتضمن النهي عن مزاحمة المسلم في البيع والنكاح، وفي البيع لا يستام على سومه، ولا يبيع على بيعه، وإذا نهاه عن السوم فنهيه المشتري على شرائه عليه حرام بطريق الأولي، ونهاه أن يخطب على خطبته. وهذا نهي عن إخراج امرأته من ملكه بطريق الأولي، ونهي المرأة أن تسأل طلاق أختها لتنفرد هي بالزوج، فهذه وإن تعلقت بالبيع والنكاح فقد اشتركت في معني عام.
وكذلك قوله: (ثلاثة لا يكلمهم اللّه، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب اليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر)، فهؤلاء الثلاثة اشتركوا في هذا الوعيد، واشتركوا في فعل هذه الذنوب مع ضعف دواعيهم؛ فإن داعية الزنا في الشيخ ضعيفة، وكذلك داعية الكذب في الملك ضعيفة؛ لاستغنائه عنه، وكذلك داعية الكِبْر في الفقير، فإذا أتوا بهذه الذنوب مع ضعف الداعي دل على أن في نفوسهم من الشر الذي يستحقون به من الوعيد ما لا يستحقه غيرهم.
وقَلَّ أن يشتمل الحديث الواحد على جمل إلا لتناسب بينهما، وإن كان قد يخفي التناسب في بعضها على بعض الناس، فالكلام المتصل بعضه ببعض يسمي حديثًا واحدًا.
وأما إذا روي الصاحب كلاما فرغ منه، ثم روي كلامًا آخر وفصل بينهما بأن قال: وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أو بأن طال الفصل بينهما، فهذان حديثان، وهذا بمنزلة ما يتصل بالكلام في الإنسان والإقرارات والشهادات، كما يتصل بعقد النكاح والبيع والإقرار والوقف. فإذا اتصل به الاتصال المعتاد كان شيئًا واحدًا يرتبط بعضه بعض، وانقضي كلامه، ثم بعد طول الفصل أنشأ كلامًا آخر بغير حكم الأول، كان كلامًا ثانيًا، فالحديث الواحد ليس كالجملة الواحدة؛ إذ قد يكون جملا، ولا كالسورة الواحدة؛ فإن السورة قد يكون بعضها نزل قبل بعض أو بعد بعض، ويكون أجنبيًا منه، بل يشبه الآية الواحدة أو الآيات المتصل بعضها ببعض، كما أنزل في أول البقرة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين؛ وكما في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] ، فإن هذا يتصل بعضه ببعض، وهو نزل بسبب قصة بني أبيرق إلى تمام الكلام.
وقد يسمي الحديث واحدًا، وإن اشتمل على قصص متعددة، إذا حَدَّث به الصحابي متصـلًا بعضـه ببعض، فيكون واحـدًا باعتبار اتصاله في كلام الصحابي، مثـل حـديث جـابر الطويل الذي يقول فيه: (كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم) وذكر فيه ما يتعلق بمعجزاته، وما يتعلق بالصلاة، وبغير ذلك، فهذا يسمي حديثًا بهذا الاعتبار، وقد يكون الحديث طويلا، وأخذ يفرقه بعض الرواة فجعله أحاديث، كما فعل البخاري في كتاب أبي بكر في الصدقة، وهذا يجوز إذا لم يكن في ذلك تغيير المعني.